يفتتح جاسم العزاوي هذا التحليل بسؤال ثقيل ومربك: داخل الحسابات المعقّدة للسياسة الخارجية الأميركية، لا توجد علاقة أكثر جدلًا من العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. نظريتان متنافستان تحاولان تفسير هذا الارتباط؛ الأولى تقول إن إسرائيل تُملي قرارات واشنطن في الشرق الأوسط، والثانية ترى أن واشنطن تستخدم إسرائيل لتنفيذ ما لا تستطيع فعله علنًا. السؤال الجوهري يبقى معلّقًا: من يقود من
في الفقرة الثانية اعتمد موقع ميدل إيست مونيتور هذا الطرح الجدلي باعتباره مدخلًا لنقاش مستمر منذ عقود حول طبيعة هذه العلاقة، وهل تقوم على سيطرة متبادلة أم على تبعية مقنّعة أم على تحالف غير متكافئ تحكمه المصالح والخوف والنفوذ.
في إحدى حلقات بودكاسته، سأل العزاوي الكولونيل لورانس ويلكرسون، الرئيس السابق لمكتب وزير الخارجية الأميركي الراحل كولن باول، عن جوهر هذه المسألة: هل تتحكم إسرائيل في سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط، أم تؤدي فقط الدور الذي تُطلب منها تأديته؟ استحضر ويلكرسون مشهدًا شهيرًا لسيناتور جمهوري وهو يصرخ داخل مجلس الشيوخ: “إذا لم تفعل إسرائيل الأمر، فعلينا نحن أن نفعله”. كشف هذا المشهد، في رأي ويلكرسون، حقيقة تتعمد واشنطن إخفاءها: إسرائيل تعمل كـ“قاعدة تشغيل أمامية” للمصالح الأميركية، تنفّذ ما لا تستطيع الولايات المتحدة إعلانه صراحة، بينما تستخدمها واشنطن كستار سياسي لتبرير عجزها عن اتخاذ مواقف مختلفة
النفوذ أم الوكالة؟
يقلب هذا الطرح السردية التقليدية التي تصوّر إسرائيل باعتبارها القوة المسيطرة، ليضعها في إطار “الوكيل الوظيفي” الذي يؤدي أدوارًا تخدم استراتيجية أميركية أوسع، مثل مواجهة إيران أو احتواء النزعات القومية العربية أو حفظ تدفقات النفط في المنطقة. لكن هذا التفسير يصطدم مباشرة بواحد من أكثر الادعاءات إثارة للجدل في علم السياسة الحديث.
في عام 2007، نشر أستاذ جامعة شيكاجو جون ميرشايمر وأستاذ جامعة هارفارد ستيفن والت كتاب “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية”. أثار الكتاب عاصفة فكرية، إذ جادل الكاتبان بأن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC) وشبكة واسعة من الجماعات الموالية لإسرائيل استطاعت أن تشكّل، بل أحيانًا تملي، سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حتى عندما يتعارض ذلك مع المصالح الاستراتيجية الأميركية. وصفا هذا النفوذ بأنه غير مسبوق مقارنة بأي جماعة ضغط أجنبية أخرى في واشنطن.
من هنا ينشأ التناقض المستمر: هل تقف الولايات المتحدة خلف القناع، أم تقف تحت الإبهام؟ هذا التوتر غذّى نقاشًا لا ينتهي، وعبّر عنه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بوضوح صادم في تسجيلات من مكتبته الرئاسية، حيث اشتكى من ضغط “اللوبي الصهيوني” عليه. ثم، في تصريح لاحق أكثر برودة وعمقًا، قال: “خلافًا لما يعتقده الجميع، إسرائيل ليست أصلًا نافعًا، بل عبئًا”.
التحالف غير المتكافئ
بين هذين التصريحين تتجسّد مفارقة مُحرّك الدمى: واشنطن تعتمد على إسرائيل لفرض نفوذها في الشرق الأوسط، وإسرائيل تعتمد على واشنطن للحماية السياسية والعسكرية في مواجهة العواقب التي يولّدها هذا الدور. كل طرف يدّعي السيطرة على الآخر، وفي جانب ما كلاهما يقول الحقيقة.
سخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من هذه التخمينات حين قال إن البعض يزعم أسبوعًا أن إسرائيل تسيطر على الولايات المتحدة، ثم يقول في الأسبوع التالي إن الولايات المتحدة تسيطر على إسرائيل. وصف ذلك بالهراء، وأكد أن العلاقة مجرد شراكة بين حليفين يتقاسمان القيم والأهداف. غير أن خبراء السياسة الخارجية يعرفون أن التحالفات نادرًا ما تقوم على مساواة حقيقية؛ بل تحكمها معادلات نفوذ واعتماد وقدرة على قول “لا”.
تحصل إسرائيل سنويًا على أكثر من 3.8 مليارات دولار كمساعدات عسكرية أميركية، إضافة إلى حماية دبلوماسية شبه مطلقة في الأمم المتحدة. في المقابل، يواجه السياسي الأميركي الذي ينتقد إسرائيل ثمنًا سياسيًا فادحًا. لهذا يصف ويلكرسون الكونجرس بأنه واقع تحت سطوة الخوف أكثر من كونه خاضعًا للسيطرة المباشرة، إذ يخشى أعضاؤه الاتهام بعدم الولاء أو خسارة الدعم السياسي والمالي.
بلغ هذا المشهد ذروته عام 2015 عندما ألقى نتنياهو خطابًا أمام جلسة مشتركة للكونجرس بدعوة من قادة جمهوريين لمعارضة الاتفاق النووي الذي تفاوض عليه الرئيس باراك أوباما مع إيران. وقف النواب وصفّقوا عشرات المرات لزعيم أجنبي يتحدى علنًا رئيسهم. بدا المشهد كما لو أن الذيل يهز الكلب.
ومع ذلك، لا تصمد نظرية الهيمنة الإسرائيلية المطلقة أمام جميع الوقائع. لو كانت إسرائيل تملك السيطرة الكاملة، لمنعت الاتفاق النووي مع إيران، ولعرقلت صفقات السلاح الأميركية مع دول عربية منافسة، ولضمنت دعمًا أميركيًا مطلقًا في كل حروب غزة. لم يحدث ذلك دائمًا. تستطيع إسرائيل أن تضغط وتدفع وتستفز، لكنها لا تستطيع الإملاء النهائي في كل مرة.
في النهاية، تستمر المفارقة لأنها تخدم الطرفين نفسيًا وسياسيًا واستراتيجيًا. كل طرف يتغذى على وهم السيطرة، بينما الواقع يشبه علاقة تكافلية معقّدة، لا علاقة محرّك دمى بدمية صامتة، بل علاقة ممثلَين محاصرين داخل مسرحية فقدا القدرة على تغيير نصّها.
https://www.middleeastmonitor.com/20251201-the-puppeteers-paradox-in-the-us-israel-relationship-who-is-the-master-and-who-is-the-slave/

